مع المؤلّفين الفلسطينيّين: "ما تيسّر" للأستاذ خليل السكاكيني | قبل النكبة

خليل السكاكيني (1878 - 1953)

 

المصدر: "الذخيرة" - مجلّة عربيّة فلسطينيّة أسبوعيّة.

موعد النشر: الأحد، 13 تشرين الأوّل 1946.

موقع النشر: جرايد.

 

بقلم: أبو سمير.

 

عرف الناس الأستاذ السكاكينيّ فيما مضى كاتبًا من طراز خاصّ، يجمع في كتاباته بين الدعابة والجدّ، وبين العمق والوضوح. وكتبه الّتي صدرت قبل اليوم، كلّها دليل على هذه الميزات والخصائص السكاكينيّة.

وكتاب اليوم هو الجزء الثاني من كتاب "ما تيسّر"، الّذي جمع فيه السكاكيني ما تفرق من مقالاته في الصحف، وخطبه ومحاضراته على المنابر. وهذا الجزء يشتمل على عدّة فصول، منها ثماني مراثٍ، وفصل عن ابن زيدون، وخطبة أُلقيت في إحدى حفلات كلّيّة النهضة، وفصل طويل على "الإنسان الجديد"، وكلمة قصيرة بعنوان "شيئان أكرهما"، يتحدّث فيها المؤلّف عن كراهيته للغرور والخوف. وهذه الكلمة الأخيرة، ذات الصفحتين فقط، من أحسن ما في الكتاب، على الأقلّ لأنّها مكتوبة في صلب الموضوع بغير مقدّمات، وتقاسيم، وتوزيع أدوار. وأمّا الفصول الباقية، فلا يكاد يخلو أغلبها من "لفّة" طويلة "تدوّخ" القارئ قبل الدخول في صلب الموضوع، يتوزّع فيها الحديث على أشياء قد لا تمسّ الموضوع من قريب ولا من بعيد، أو قد تمسّه بعض الشيء، ولكن طولها يضايق القارئ برغم ما قد تحمله من دعابة وطرافة.

 

 

من ذلك مقدّمة على "الأبطال والبطولة" في رثاء نخلة زريق، وثانية على الشعر في مرثيّة إبرهيم طوقان الأولى، وثالثة على حالة فلسطين العلميّة في مرثيّة طوقان الثانية، ورابعة على أنواع الفلاسفة في رثاء أمين الريحاني، وخامسة على أنواع الناس في رثاء يعقوب فرّاج، وسادسة على سياحات المؤلّف لنفسه وشعره في حديثه على ابن زيدون، وسابعة تكاد تشمل القسم الأكبر من "الإنسان الجديد"، وهو الفصل الّذي ألقاه الأستاذ في عدد كبير من الأندية والجمعيّات والمدارس في فلسطين وشرقيّ الأردن.

فهذه "الشطحات" كلّها – أو على الأقلّ أغلبها – لا تتحمّلها الفصول الّتي أُدخلت عليها، وليس من ورائها سوى "تدويخ" القارئ وإملاله. وإدخالها في مواقف الرثاء خاصّة، مدعاة إلى الملل الأكيد، والنفور الشديد؛ لأنّ لا صلة بينها وبين الرثاء، فلو خلت مرثيّتا زريق وفرّاج مثلًا، من المقدّمات المملّة، لكانتا من أروع المراثي وأوقعها في النفوس. وكذلك فصل "ابن زيدون"، فقد أفسدته المقدّمة – أو الشطحة على الأصحّ – الطويلة أيّما إفساد.

أمّا مرثيّتا إبرهيم طوقان، فلنا عليها من المآخذ أكثر ممّا عداهما؛ فالّذي يظهر لكلّ مَنْ يقرأهما، أنّ الأستاذ السكاكينيّ لا يعرف من طوقان إلّا شخصه، وأمّا شعره، فلا يعرف منه شيئًا. وإلّا فكيف يمكن أن يكتب عنه أربعًا وعشرين صفحة، لا يتمثّل فيها ببيت واحد من شعره، وإنّما يكتفي بأن يتمثّل بشعر المتنبّي، أي والله، من شعر المتنبّي في الحديث عن شعر طوقان؟! وكيف أباح لنفسه هذه الأحكام المطلقة يخلعها على طوقان، وكلامه يحكم عليه بعدم معرفة شيء من شعره؟! كيف حكم "بأنّ شعر طوقان من أوّله إلى آخره ليس فيه أثر للتقليد، وأنّ الألفاظ ألفاظه والمعاني معانيه، وهذه على قدر تلك لا تزيد ولا تنقص، وأنّك إذا سمعت قصائده الأولى لا تظنّها إلّا لشاعر زاول قرض الشعر من عهد بعيد، وأنّ شعره حسن الرصف سديد المسلك في غير كلفة"؟ ثمّ كيف يريد أن "يبايع إبراهيم بإمارة الشعر بعد موته – ما دام قد فاته مبايعته في حياته – لأنّ شعره من الطراز الأوّل"، وهو لا يعرف منه بيتًا واحدًا يُدعم به هذه الأحكام المرتجلة كلّها؟!

أليس من فساد المقاييس الأدبيّة أن نلقي هذه الأحكام المطلقة جزفًا، وعلى عواهنها، بغير أن نكلّف أنفسنا عناء تقديم الدليل؟ وعدا هذا كلّه، هل كان يتّسع مقام الرثاء والتأبين لهذا الحديث الطويل العريض على "الشعر"، الّذي استغرق خمس عشرة صفحة كاملة، وعلى "حالة فلسطين العلميّة"، الّذي استغرق خمس صفحات أُخَر؟! وماذا يبقى من الحديث على إبرهيم لو حُذفت هذه الصفحات العشرون كلّها؟!

إلّا أنّنا لفي زمن سمجت فيه حتّى مقدّمات الكتب الضخمة، فكيف إذا كان لكلّ فصل قصير مقدّمة أطول من شهر الصوم؟

غير أنّ الكتاب لم يخل من المحاسن، فلا يسعنا إلّا أن نتوقّف طويلًا عند "الكلمة الرابعة" فيه، وعند "شيئان أكرهما"، لأنّهما فصلان سكاكينيّان حقًّا، تجتمع فيهما ميزات السكاكينيّ الخاصّة الّتي تجمع بين الدعابة والجدّ، والعمق والوضوح، والتربية الصحيحة الّتي تميّز أسلوبه عن أساليب سائر الكتّاب. وهما فصلان قيّمان جدًا، وجديران بالتقدير.

وكذلك لا بدّ لنا من أن نذكر أنّ الفصلين اللّذين رثى بهما المؤلّف المرحومين "شقير" و"حيدر"، هما أحسن مراثي الكتاب، لأنّهما خصّصا لموضوعهما فقط بغير تقاسيم وأدوار.

أمّا "الإنسان الجديد"، فلست أرى فيه شيئًا جديدًا، بعد أن قال نيتشه قبل خمسين عامًا أو أكثر: "تزوّجوا أحسن النساء"، ففي هذه العبارة خلاصة المحاضرة، لأنّ الأستاذ المؤلّف جعل اختيار الزوجة أساسًا لإنتاج الإنسان الجديد – أو لعلّه السوبرمان الجديد – الّذي يريده. وهو لا ينكر أثر نيتشه الكبير في كتاباته، فقد اعترف به في كتابيه "سريّ" و"ما تيسّر" الأوّل، وأمّا بقيّة تفاصيل الموضوع، فلا تزيد – في رأيي – على كونها موضوعًا للتندّر والتسلية، لا للعمل الجدّيّ المثمر.

"أبو سمير"

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.